لقد استفاد دعاة العلمانية من تراكم الاحباطات التي خلقها أو خلّفها المتدينون الفاسدون المنحرفون لدى المجتمع الديني خصوصاً ولدى المجتمع الإنساني عموماً ، واستطاع العلمانيون أن يتكئوا على الاختلافات والخلافات بين علماء ورجال الدين ، والتي جرّت المجتمعات الإنسانية إلى حروب وفتن داخلية ، وحروب وفتن عالمية .
فكم سقط تحت صولجانات الملوك (المتدينين) من الضحايا ؟ وكم دفع رجال المعبد بالأبرياء نحو محرقة الحرب ؟ وكم وظف الحاخامات من المساكين والبسطاء لتحقيق نزعات ورغبات الطواغيت ؟ وكم سقط على أعتاب الكنائس والمساجد والحسينيات - مما لا يمكن إحصاءه - من أرواح الأبرياء الذين راحوا ضحايا الدفاع عن الحق وعن الدين ، أو تساقطوا قرابين لكلمة قالها الحاخام أو المطران أو السيد أو الشيخ ؟ وكم انتشر في ربوع الألم والجوع من اليتامى الباحثين عن الخلاص ؟ وكم ضاعت وتشتت الكثير من الأسر والعائلات وهي تدافع عن مبدأ (قيل) إنه يمثل أصل الدين وحقيقته ، وقيل إن الخلاص في (الدنيا والآخرة) يمر عبر بوابة تقديم القرابين لهذا المبدأ ؟ ورحم الله أبا العلاء المغري حين أوجز قائلاً (كلٌّ يُعظِمُ دينـهُ - يا ليتَ شِعري - ما الصحيح ؟) .
من هنا ، كان العلمانيون - وحتى أعداء الدين والتدين - قد وظفوا الكثير من التصرفات (السيئة) لرجال الدين وعلماءه ، وكذلك النتائج المترتبة على هذه التصرفات من أجل تمرير مشروعهم وأفكارهم على أساس أن (العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة) ، ووجدوا لدى المتلقي رغبة في قبول مفردات مشروعهم نتيجة لهرب المتلقي من الدين والتدين بسبب تحول الكثير الكثير من علماء ورجال الدين - وأتباعهم المتطرفين - إلى عصابات خطيرة لا تحترم وجود الإنسان ، وتقدم نفسها على إنها هي راعية المجتمع ، وإنها تمثل سلطة الله في الأرض .
لقد نشأت (العلمانية) كرد فعل لرفض المؤسسة الدينية الفاسدة ، وبدأت كأنموذج للـ (non-religions) أي الـ (لا دينية) ، ولكن ، وبفضل الذين (يحبون أن تشيع الفاحشة في الأرض) ، كانت فكرة الـ (non-religions) قد تطورت إلى فكرة الـ (Anti- religions) أي بمعنى الـ (ضد الدينية) لدي المؤسسة الفكرية العلمانية ، ولو أن بعض الساسة (المتدينين) آثروا أن يحولوا المعنى الحقيقي لكلمة العلمانية (secularism) من الـ (لا دينية) إلى مصطلح أقل خدشاً للمشاعر ، وأسهل تسويقاً وتزويقاً ، وهو مصطلح (فصل الدين عن السياسة) ، لسببين مهمين يتعلق أولهما بخشية العلمانيين من مواجهة المجتمع الموغل بفكرة الدين والتدين (الصالح والفاسد) وخشيتهم من سطوة البعض من رجال وعلماء الدين الطافي أغلبهم على ساحة الاستعراض الديني الذين يعتبرون الحوار (رجس من عمل الشيطان) ، ويتعلق السبب الثاني بعدم قناعة (الملحدين) أو العلمانيين بعدم وجود إله يقف وراء الدين ونشأة الدين والتدين ، وخصوصاً في المجتمعات الشرقية عموماً ، والعربية والإسلامية خصوصاً .
لقد جُبل الإنسان منذ بدء الخليقة على البحث عن (المثل الأعلى) ولذا ففطرته السليمة تدفعه للبحث عن الإله الخالق المدبر المسيطر ، فتراه حين يعجز عن إيجاد هذا الإله (بشكله المادي) فهو يبحث عن (مظاهر) وجود هذا الإله على الأرض ، وهم الأنبياء ، وبالتالي ، وعلى حين فترة من الرسل ، وحين ينقطع الوحي السماوي عن الأرض يبدأ الإنسان بالانزياح نحو سلطة الله في الأرض عبر التعلق والتشبث بـ (ممثلي) هذا الإله ، وهم - طبعاً - رجال الدين وعلماءه ، فيقع فريسة لأنياب العمامة أو الثياب الدينية الملونة والمزركشة ، ومن هنا نفهم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين يشيرنا إلى إن أكثر وأشد الناس شراً على الأرض هم (العلماء إذا فسدوا) .
والعلماء هنا ليسوا (أينشتاين) أو (الفارابي) أو (أديسون) أو (جابر بن حيان) أو (مليكان) أو (ابن سينا) أو (داروين) ، بل هم الفاسدون من علماء الدين ورجاله من المنغمسين في الأحقاد الطائفية والشعوبية والشوفينية ، أو هم (وعاظ السلاطين) الذين منحوا سلاطينهم شرعية (مولوية) فوقية كاملة لفعل ما يشاءون وقت ما يشاءون ، وخطورتهم متأتية من قدرتهم الفائقة على أن يبرروا جرائمهم وجرائم سلاطينهم عبر الغطاءات والفضاءات الدينية والخدع والمخاتلات الشرعية والـ (كلاوات الشرعية) كما يسميها (مُصلِحِ العَصر) الولي المقدس محمد محمد صادق الصدر (عليه صلوات من ربه ورحمة) .
ويمكن للمتدينين الفاسدين أن يمنحوا أتباعهم وأرباب نعمهم القدرة على خلق المبرر الشرعي للجريمة التي تواكب تطلعاتهم ونزعاتهم ، وبالتالي فمن الطبيعي أو المنتظر أن يمتلكوا القدرة على أن يصبحوا سبباً مباشراً وفاعلاً في كراهية الإنسان لله وللأنبياء وللدين ولكل ما يمت للدين والتدين بصلة .
إن طبيعة الإنسان تدل على إنه يبحث عن إلهه على الأرض حين يعجز عن اقتفاء أثره في السماء ، ويبحث عنه في الواقع حين يعجز عن إيجاده في الخيال ، وهو بذلك يريد أن ينتقل من (الباطن) الى الظاهر ، ولذا فهو يرى (الله) في رجل الدين ، ويشعر إنه قريب من الله حين يكون بحضرة (رجل الدين) ، وتكتنفه الروحانية والنشوة والإحساس بالقوة والتألق حين يجالس رجل الدين ، ويشعر بإحساس دافئ بالأمان حين يجلس على (كرسي الاعتراف) بين يدي رجل الدين ، ويمكن لكلمة يقولها الحاخام أو القس أو السيد أو الشيخ أن تصبح (آية) من آيات الله ، وأمراً من أوامر الله ، وهي صورة من صور العبودية أو الربوبية المستحدثة التي حذرنا منها القرآن حين قال :- (ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) 34/ آل عمران .
ومجرد تقبيل يد (رجل أو عالم الدين) فكأنها محاولة لتقبيل (يد) الله بـ (الاستعاضة) في فهوم الناس البسطاء وتغسيراتهم للدين ، وهذا ما انتبه له البعض من خبثاء رجال الدين ، وأخذوا يوظفونه أيّما توظيف لإملاء فراغهم النفسي وإشباع نوازعهم وإنماء مصالحهم ، وتحقيق ذواتهم (الناقصة) المريضة، والمصابة بعقدة البحث عن التكامل (المتسافل) .
إن من غير المقنع أو المنطقي أن نتصور بأن رجل الدين (لا يشعر بالنشوة والنصر والكِبَر) حين يقومَ أحدٌ بتقبيل يده ، ولا يمكن أن نتصور بأن رجل الدين لا يشعر لحظة تقبيل اليد بوخزة لذيدة من نشوة التعالي على البشر .
ومنطقياً ، فإن أي إنسان يسمح للآخرين بتقبيل يده ويدعي أنه لا يشعر بالتعالي والفخر فهو لا يخرج عن كونه أحد ثلاثة ، فإما / أن يكون (نبياً) من الأنبياء الذين لا تؤثر فيهم هذه الممارسات بحكم تكاملهم النفسي ، وأما / أن يكون (حيواناً) لا يشعر بشئ ، أو / يكون كاذباً وشيطاناً مدعياً ومتعالياً على البشر وعدواً لهم ولله شأنه شأن فرعون ، وبكل الحالات الثلاث فهو لا يستحق الإتباع ، ولا يستحق التقليد ، بل يستحق الإهانة لأنه يبحث عن نشوته عبر إهانة أبناء جنسه من البشر .
وهذا ليس غريباً ، فنحن نعرف أن الكثير ممن لبسوا رداء الدين – وليس كلهم – لم تدفعهم عوامل محبة الله أو محبة دين الله ، أو محبة خلق الله لارتداء زي علماء ورجال الدين ، بل منهم من دفعهم إحساسهم بالنقص إلى ارتداء هذا الزي بعد أن وجدوا أن الناس تحترم هذا الزي وأهله ، وبعد أن وجدوا أنهم يمكن أن يحصلوا على احترام وتبجيل الناس لهم ، بعد أن عرفوا بأنهم (فارغين) من المحتوى العلمي والأكاديمي ، وليس لديهم ما يستقطبون به احترام الناس عن جدارة ، فهم يبحثون عن الأضواء ، ومن أجل هذه الأضواء فهم مستعدون لفعل أي شئ .
ولذا نجد إن مرجعاً (الولي الشهيد محمد محمد صادق الصدر أنموذجاً) ، أو قساً أو حاخاماً أو رجلاً من رجال الدين (مُجدداً أو مصلحاً) يحاول أن ينكل بذوي الزي الديني الرسمي الذين يسمحون للعامة بتقبيل أيديهم ، ويسميهم بـ (أعداء الله) ، نجده مرغماً أن يدفع ثمن وفاتورة محاولة الإصلاح هذه ، ذلك لأنه يهدم إمبراطورية عمرها مئات الأعوام من ذلة وعز تقبيل اليد ، ويبدد نشوة رجل الدين المبجل (المعصوم) في رؤية الناس وهم ينحنون بحضرته ليقدموا له مصداق الطاعة والانتماء ، مطمئناً على صدق طاعة الأتباع وديمومة إمكانية احتلابهم وامتصاص مقتنياتهم .
وهو بهذا- أعني به العالم المصلح النـزق الباحث عن المتاعب والتجديد - يخرق المألوف ، ويقفز على أسوار إمبراطوريات الدين المحمية ، وعليه أن يدفع فاتورة هذا التقافز ، كما حدث مع السيد الشهيد (محمد الصدر) في العراق قي فترة ما قبل حلول الألفية الثالثة ، كأنموذج معاصر ومعاش ، حين منع من ممارسة تقبيل يد علماء الدين ، معتبراً ومُفتياً بأن (تقبيل اليد) يقع ضمن (الحرمة) الأخلاقية ، فقامت بوجهه الدنيا ولم تقعد ، وأعتُبر من (المخالفين للمشهور) ، بل ربما اعتبره البعض بأنه (من أهل البدع) ، فأثار (المتدينون الفاسدون) ضده مشاعر العامة (الإمعات) ، وزرعوا في نفوس أتباعهم الخشية والتوجس من نتائج هذا الخرق الفاضح ، وكأنه قام بجريمة ثقب طبقة الأوزون ، بل ما زال البعض - حتى كتابة هذه السطور - يعتبرون أتباعه ممن خرجوا عن الدين والملة بسبب (سوء الأدب) الذي يمنعهم من تقبيل يد أساطين العمامة .
إن المجتمعات – على مر التأريخ – لم تستنفر طاقاتها للوقوف بوجه رجال الدين (المصلحين والمجددين) دون أن يقف خلف استنفارها رجل من رجال الدين المفسدين ، وحتى الساسة والطواغيت الذين يشعرون بتهديد المصلحين من المتدينين لمصالحهم وامبراطورياتهم فهم ينتدبون (رجال وعلماء الدين) الفاسدين ووعاظ السلاطين لمحاربة (علماء ورجال الدين المصلحين) والتصدي لهم وإفشال مشاريعهم الإصلاحية .
وليس في المجتمعات أنموذجاً لرجل دين (مفسد) كان قد استنفر طاقاته للدفاع عن أصل وحقيقة الدين أمام المصلحين والمجددين ، بل نجد النفير العام يحدث عندما يقوم المصلح بضرب (مصالح رجال الدين) أو تهديد مصالح أسياده من المالكين ، فيحدث رد الفعل الانعكاسي لدى رجال الدين المفسدين ، ويحركون رعاعهم وأتباعهم لضرب حركة الإصلاح ، ولو إن أحداً من المصلحين أخذ (يكرز) في البرية ، ويبشر بدين جديد بعيداً عن الخطوط الحمراء لرجال الدين الأباطرة المفسدين لما انتصب الصليب بوجه السيد المسيح (ع) ، ولما أهدي رأس يحيى بن زكريا (ع) إلى بغية من بغايا بني إسرائيل ، ولما حوصر محمد بن عبد الله (ص) في شعب من شعاب مكة وأرغم على الهجرة من محل ولادته ومرتع صباه ، ولما حـُمل رأس الحسين بن علي بن أبي طالب الى الشام ، لتكتمل فرحة يزيد بن معاوية بالنصر على استئصال شأفة الفضيلة التي كانت تهدد عرشه (الكسرو – إسلامي)
فكم سقط تحت صولجانات الملوك (المتدينين) من الضحايا ؟ وكم دفع رجال المعبد بالأبرياء نحو محرقة الحرب ؟ وكم وظف الحاخامات من المساكين والبسطاء لتحقيق نزعات ورغبات الطواغيت ؟ وكم سقط على أعتاب الكنائس والمساجد والحسينيات - مما لا يمكن إحصاءه - من أرواح الأبرياء الذين راحوا ضحايا الدفاع عن الحق وعن الدين ، أو تساقطوا قرابين لكلمة قالها الحاخام أو المطران أو السيد أو الشيخ ؟ وكم انتشر في ربوع الألم والجوع من اليتامى الباحثين عن الخلاص ؟ وكم ضاعت وتشتت الكثير من الأسر والعائلات وهي تدافع عن مبدأ (قيل) إنه يمثل أصل الدين وحقيقته ، وقيل إن الخلاص في (الدنيا والآخرة) يمر عبر بوابة تقديم القرابين لهذا المبدأ ؟ ورحم الله أبا العلاء المغري حين أوجز قائلاً (كلٌّ يُعظِمُ دينـهُ - يا ليتَ شِعري - ما الصحيح ؟) .
من هنا ، كان العلمانيون - وحتى أعداء الدين والتدين - قد وظفوا الكثير من التصرفات (السيئة) لرجال الدين وعلماءه ، وكذلك النتائج المترتبة على هذه التصرفات من أجل تمرير مشروعهم وأفكارهم على أساس أن (العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة) ، ووجدوا لدى المتلقي رغبة في قبول مفردات مشروعهم نتيجة لهرب المتلقي من الدين والتدين بسبب تحول الكثير الكثير من علماء ورجال الدين - وأتباعهم المتطرفين - إلى عصابات خطيرة لا تحترم وجود الإنسان ، وتقدم نفسها على إنها هي راعية المجتمع ، وإنها تمثل سلطة الله في الأرض .
لقد نشأت (العلمانية) كرد فعل لرفض المؤسسة الدينية الفاسدة ، وبدأت كأنموذج للـ (non-religions) أي الـ (لا دينية) ، ولكن ، وبفضل الذين (يحبون أن تشيع الفاحشة في الأرض) ، كانت فكرة الـ (non-religions) قد تطورت إلى فكرة الـ (Anti- religions) أي بمعنى الـ (ضد الدينية) لدي المؤسسة الفكرية العلمانية ، ولو أن بعض الساسة (المتدينين) آثروا أن يحولوا المعنى الحقيقي لكلمة العلمانية (secularism) من الـ (لا دينية) إلى مصطلح أقل خدشاً للمشاعر ، وأسهل تسويقاً وتزويقاً ، وهو مصطلح (فصل الدين عن السياسة) ، لسببين مهمين يتعلق أولهما بخشية العلمانيين من مواجهة المجتمع الموغل بفكرة الدين والتدين (الصالح والفاسد) وخشيتهم من سطوة البعض من رجال وعلماء الدين الطافي أغلبهم على ساحة الاستعراض الديني الذين يعتبرون الحوار (رجس من عمل الشيطان) ، ويتعلق السبب الثاني بعدم قناعة (الملحدين) أو العلمانيين بعدم وجود إله يقف وراء الدين ونشأة الدين والتدين ، وخصوصاً في المجتمعات الشرقية عموماً ، والعربية والإسلامية خصوصاً .
لقد جُبل الإنسان منذ بدء الخليقة على البحث عن (المثل الأعلى) ولذا ففطرته السليمة تدفعه للبحث عن الإله الخالق المدبر المسيطر ، فتراه حين يعجز عن إيجاد هذا الإله (بشكله المادي) فهو يبحث عن (مظاهر) وجود هذا الإله على الأرض ، وهم الأنبياء ، وبالتالي ، وعلى حين فترة من الرسل ، وحين ينقطع الوحي السماوي عن الأرض يبدأ الإنسان بالانزياح نحو سلطة الله في الأرض عبر التعلق والتشبث بـ (ممثلي) هذا الإله ، وهم - طبعاً - رجال الدين وعلماءه ، فيقع فريسة لأنياب العمامة أو الثياب الدينية الملونة والمزركشة ، ومن هنا نفهم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين يشيرنا إلى إن أكثر وأشد الناس شراً على الأرض هم (العلماء إذا فسدوا) .
والعلماء هنا ليسوا (أينشتاين) أو (الفارابي) أو (أديسون) أو (جابر بن حيان) أو (مليكان) أو (ابن سينا) أو (داروين) ، بل هم الفاسدون من علماء الدين ورجاله من المنغمسين في الأحقاد الطائفية والشعوبية والشوفينية ، أو هم (وعاظ السلاطين) الذين منحوا سلاطينهم شرعية (مولوية) فوقية كاملة لفعل ما يشاءون وقت ما يشاءون ، وخطورتهم متأتية من قدرتهم الفائقة على أن يبرروا جرائمهم وجرائم سلاطينهم عبر الغطاءات والفضاءات الدينية والخدع والمخاتلات الشرعية والـ (كلاوات الشرعية) كما يسميها (مُصلِحِ العَصر) الولي المقدس محمد محمد صادق الصدر (عليه صلوات من ربه ورحمة) .
ويمكن للمتدينين الفاسدين أن يمنحوا أتباعهم وأرباب نعمهم القدرة على خلق المبرر الشرعي للجريمة التي تواكب تطلعاتهم ونزعاتهم ، وبالتالي فمن الطبيعي أو المنتظر أن يمتلكوا القدرة على أن يصبحوا سبباً مباشراً وفاعلاً في كراهية الإنسان لله وللأنبياء وللدين ولكل ما يمت للدين والتدين بصلة .
إن طبيعة الإنسان تدل على إنه يبحث عن إلهه على الأرض حين يعجز عن اقتفاء أثره في السماء ، ويبحث عنه في الواقع حين يعجز عن إيجاده في الخيال ، وهو بذلك يريد أن ينتقل من (الباطن) الى الظاهر ، ولذا فهو يرى (الله) في رجل الدين ، ويشعر إنه قريب من الله حين يكون بحضرة (رجل الدين) ، وتكتنفه الروحانية والنشوة والإحساس بالقوة والتألق حين يجالس رجل الدين ، ويشعر بإحساس دافئ بالأمان حين يجلس على (كرسي الاعتراف) بين يدي رجل الدين ، ويمكن لكلمة يقولها الحاخام أو القس أو السيد أو الشيخ أن تصبح (آية) من آيات الله ، وأمراً من أوامر الله ، وهي صورة من صور العبودية أو الربوبية المستحدثة التي حذرنا منها القرآن حين قال :- (ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) 34/ آل عمران .
ومجرد تقبيل يد (رجل أو عالم الدين) فكأنها محاولة لتقبيل (يد) الله بـ (الاستعاضة) في فهوم الناس البسطاء وتغسيراتهم للدين ، وهذا ما انتبه له البعض من خبثاء رجال الدين ، وأخذوا يوظفونه أيّما توظيف لإملاء فراغهم النفسي وإشباع نوازعهم وإنماء مصالحهم ، وتحقيق ذواتهم (الناقصة) المريضة، والمصابة بعقدة البحث عن التكامل (المتسافل) .
إن من غير المقنع أو المنطقي أن نتصور بأن رجل الدين (لا يشعر بالنشوة والنصر والكِبَر) حين يقومَ أحدٌ بتقبيل يده ، ولا يمكن أن نتصور بأن رجل الدين لا يشعر لحظة تقبيل اليد بوخزة لذيدة من نشوة التعالي على البشر .
ومنطقياً ، فإن أي إنسان يسمح للآخرين بتقبيل يده ويدعي أنه لا يشعر بالتعالي والفخر فهو لا يخرج عن كونه أحد ثلاثة ، فإما / أن يكون (نبياً) من الأنبياء الذين لا تؤثر فيهم هذه الممارسات بحكم تكاملهم النفسي ، وأما / أن يكون (حيواناً) لا يشعر بشئ ، أو / يكون كاذباً وشيطاناً مدعياً ومتعالياً على البشر وعدواً لهم ولله شأنه شأن فرعون ، وبكل الحالات الثلاث فهو لا يستحق الإتباع ، ولا يستحق التقليد ، بل يستحق الإهانة لأنه يبحث عن نشوته عبر إهانة أبناء جنسه من البشر .
وهذا ليس غريباً ، فنحن نعرف أن الكثير ممن لبسوا رداء الدين – وليس كلهم – لم تدفعهم عوامل محبة الله أو محبة دين الله ، أو محبة خلق الله لارتداء زي علماء ورجال الدين ، بل منهم من دفعهم إحساسهم بالنقص إلى ارتداء هذا الزي بعد أن وجدوا أن الناس تحترم هذا الزي وأهله ، وبعد أن وجدوا أنهم يمكن أن يحصلوا على احترام وتبجيل الناس لهم ، بعد أن عرفوا بأنهم (فارغين) من المحتوى العلمي والأكاديمي ، وليس لديهم ما يستقطبون به احترام الناس عن جدارة ، فهم يبحثون عن الأضواء ، ومن أجل هذه الأضواء فهم مستعدون لفعل أي شئ .
ولذا نجد إن مرجعاً (الولي الشهيد محمد محمد صادق الصدر أنموذجاً) ، أو قساً أو حاخاماً أو رجلاً من رجال الدين (مُجدداً أو مصلحاً) يحاول أن ينكل بذوي الزي الديني الرسمي الذين يسمحون للعامة بتقبيل أيديهم ، ويسميهم بـ (أعداء الله) ، نجده مرغماً أن يدفع ثمن وفاتورة محاولة الإصلاح هذه ، ذلك لأنه يهدم إمبراطورية عمرها مئات الأعوام من ذلة وعز تقبيل اليد ، ويبدد نشوة رجل الدين المبجل (المعصوم) في رؤية الناس وهم ينحنون بحضرته ليقدموا له مصداق الطاعة والانتماء ، مطمئناً على صدق طاعة الأتباع وديمومة إمكانية احتلابهم وامتصاص مقتنياتهم .
وهو بهذا- أعني به العالم المصلح النـزق الباحث عن المتاعب والتجديد - يخرق المألوف ، ويقفز على أسوار إمبراطوريات الدين المحمية ، وعليه أن يدفع فاتورة هذا التقافز ، كما حدث مع السيد الشهيد (محمد الصدر) في العراق قي فترة ما قبل حلول الألفية الثالثة ، كأنموذج معاصر ومعاش ، حين منع من ممارسة تقبيل يد علماء الدين ، معتبراً ومُفتياً بأن (تقبيل اليد) يقع ضمن (الحرمة) الأخلاقية ، فقامت بوجهه الدنيا ولم تقعد ، وأعتُبر من (المخالفين للمشهور) ، بل ربما اعتبره البعض بأنه (من أهل البدع) ، فأثار (المتدينون الفاسدون) ضده مشاعر العامة (الإمعات) ، وزرعوا في نفوس أتباعهم الخشية والتوجس من نتائج هذا الخرق الفاضح ، وكأنه قام بجريمة ثقب طبقة الأوزون ، بل ما زال البعض - حتى كتابة هذه السطور - يعتبرون أتباعه ممن خرجوا عن الدين والملة بسبب (سوء الأدب) الذي يمنعهم من تقبيل يد أساطين العمامة .
إن المجتمعات – على مر التأريخ – لم تستنفر طاقاتها للوقوف بوجه رجال الدين (المصلحين والمجددين) دون أن يقف خلف استنفارها رجل من رجال الدين المفسدين ، وحتى الساسة والطواغيت الذين يشعرون بتهديد المصلحين من المتدينين لمصالحهم وامبراطورياتهم فهم ينتدبون (رجال وعلماء الدين) الفاسدين ووعاظ السلاطين لمحاربة (علماء ورجال الدين المصلحين) والتصدي لهم وإفشال مشاريعهم الإصلاحية .
وليس في المجتمعات أنموذجاً لرجل دين (مفسد) كان قد استنفر طاقاته للدفاع عن أصل وحقيقة الدين أمام المصلحين والمجددين ، بل نجد النفير العام يحدث عندما يقوم المصلح بضرب (مصالح رجال الدين) أو تهديد مصالح أسياده من المالكين ، فيحدث رد الفعل الانعكاسي لدى رجال الدين المفسدين ، ويحركون رعاعهم وأتباعهم لضرب حركة الإصلاح ، ولو إن أحداً من المصلحين أخذ (يكرز) في البرية ، ويبشر بدين جديد بعيداً عن الخطوط الحمراء لرجال الدين الأباطرة المفسدين لما انتصب الصليب بوجه السيد المسيح (ع) ، ولما أهدي رأس يحيى بن زكريا (ع) إلى بغية من بغايا بني إسرائيل ، ولما حوصر محمد بن عبد الله (ص) في شعب من شعاب مكة وأرغم على الهجرة من محل ولادته ومرتع صباه ، ولما حـُمل رأس الحسين بن علي بن أبي طالب الى الشام ، لتكتمل فرحة يزيد بن معاوية بالنصر على استئصال شأفة الفضيلة التي كانت تهدد عرشه (الكسرو – إسلامي)