فكرة هذه السطور مستوحاة من حديث قصير دار بيني وبين الزميل الكاتب صباح اللامي، الذي يعيش خارج البلاد، وقد كان في زيارة الى بغداد، مؤخراً، حيث كنت قد سألته ان كان العيش هناك أفضل! فرد على الفور، هنا أحسن!
لاشك ان الفارق في مستوى المعيشة بين عراق اليوم والدول المتقدمة التي هاجر اليها الكثيرون ، كبير جداً، على مستوى الخدمات ووسائل الراحة المختلفة، وربما كان سؤالي يستبطن هذا الفارق وكأني أرثي حال البلاد بعد ما حل بها من خراب، وانعدام الخدمات الاساسية، وكان اللامي مدركاً لمقصدي الذي يستحضر ألماً، يشاركني به ، كما الآخرين ، لذا كانت اجابته، تستبطن هي الاخرى، الماً آخر، لم استشعره كوني لم اسافر لتلك البلدان ، ومصدر ألمه، هو ان الحياة في الغربة، تعني تعطيل الاحساس الحقيقي بالوجود، الذي يعكسه حضور المرء بين أهله واصدقائه، ودفء الحياة الاجتماعية التي يفتقدها المغترب حين يكون بين قوم لا يشاركونه انفعالاته الوجدانية، ولا يستطيع ان ينسجم معهم في الكثير من مفاصل الحياة اليومية، فيعيش الغربتين، الوجدانية والمكانية، ناهيك عن قسوة هذا الاحساس بالنسبة للمثقف مرهف الحس، والذي تتملكه رغبة جارفة في ان يكون جزءاً من النشاط اليومي للمجتمع من خلال قلمه الذي يتلمس موضوعاته بين طرق ومسالك البلاد، لينثر اوجاعها على الورق، وتلك هي محنة المثقفين العراقيين أو أغلبهم، ان لم نقل كلهم! مذكرين هنا بأن الزميل صباح اليوم حاضر في البلاد وبشكل يومي من خلال عمومه (أحلام وكوابيس) في أخيرة صحيفة (المشرق).
كلام اللامي، أعادني الى الوراء سنينا، حين استحضرت ايام العسكرية، واستشهدت خلال الحديث بموضوعة نقل الجندي من وحدته الى وحدة اخرى، والاحساس العميق بالألم الذي يصاحب هذا الاجراء الذي ليس أمام الجندي (المنقول) الا تنفيذه، ومع الاعتراف بالفارق بين الحالتين، الا اني بهذا الاستشهاد أردت تأكيد وجهة نظر محدثي بقسوة الاحساس عندما يكون الانسان بعيداً عن أهله وأصدقائه، وقلت ايضاً ان الجندي حين تنقل وحدته الى مكان آخر، وهو معها، فان وطأة الألم المتمثل بفراقه وزملائه ، المكان الذي ألفوه، اذا ما كانوا منسجمين معه، وخال من المنغصات، تكون شبه معدومة قياساً بالألم الذي يسببه نقله منفرداً، الى وحدة أخرى، أو الى اناس آخرين لم يعرفهم، ومكان آخر يحتاج الى فترة زمنية ليتآلف معه، ويكوّن علاقات صداقة مع زملائه الجدد تشعره بالاطمئنان والراحة النفسية.
العراق اليوم، وبفعل ما حل به من خراب، تغيرت ملامحه، أو تشوهت، فبغداد لم تعد هي تلك التي نعرفها، بعد ان فقدت كل أسباب زينتها وزهوها وسهرها، وضوئها، وقبل هذا اطمئنانها كمدينة كانت تحتضن الحياة وتحتضنها، وهذا أدى بدوره الى احساس الناس بأنهم فقدوا شيئاً لايمكن تعويضه الا به وتلك هي قضية الوطنيين العراقيين، قبل غيرهم.
لقد حدثني صديق عاد من احدى الدول العربية، قبل أيام بأن العراقيين هناك يتحرقون شوقاً للعراق، ويريدون العودة الا ان ظروف العراق الأمنية والخدمية تحول دون هذه العودة، لاسيما ان أطفال هؤلاء تجعل ذويهم يحسبون لأمر العودة، حساباً لا يخلو من ضرورة توفر هذه الخدمات في البلد الذي يفتقدها مع انها تعد من البديهيات في عالم اليوم ، مع اني لااتفق بالكامل مع هذه المبررات!
هل أقول ان العراقيين صاروا أشبه بالوحدة العسكرية التي نقل أفرادها الى وحدات متفرقة وبأوامر عسكرية فرضتها استحقاقات الاحتلال؟.. قطعاً لا، وقطعاً ان العراق سيعود، وبأهله بالتأكيد