راودتني الرغبة في الكتابة عن هذا الموضوع قبل عام تقريبا، لكنني عزفت عنه لأسباب عديدة ليس أقلها أن الوسط الثقافي العراقي نموذج مصغر – أو ربما موّسع – للوسط السياسي، فهذا الوسط عبارة عن كيان مشوّه أو ائتلاف ملوث بالكثير من الموبقات، و هو ائتلاف متناحر و منقسم إلى شُلل و عصابات " ثقافية" إن قبلت الثقافة بمثل هذا الوصف الجائر بحقها. إن ما يصطلح عليه بالنخبة المثقفة هي خلاصة توجهات المجتمع و مطبوعة بطبائعه وأخلاقياته، وتشاطره وعيه البليد بحقائق الحياة من حوله رغم الادعاءات الرنانة ذات العيار الثقيل تلك التي تخلع صفة الإبداع على كل من يراكم سطوره على صحيفة هنا و هناك أو يصدر جدول ضرب لحروف اللغة من دكاكين النشر. ثمة أسطورة يرددها عدد من المثقفين والكتاب العراقيين بشكل خاص في محاولة لإعطاء أنفسهم وزنا مؤثرا هي أن من فجّر النهضة الأوربية و أسهم في ولادة العالم المتمدن هم الأدباء و الروائيون والشعراء الذين خلقوا وعيا حضاريا للشعوب الغربية أدى إلى ما نشهده الآن من تقدم في مختلف مجالات الحياة. هؤلاء هم من أطاحوا بظلام أوروبا و أزاحوا الدكتاتوريات عن عروشها. ورغم عدم إنكار دور هؤلاء إلا أن الحقيقة ليست كذلك، أو لنقل أنها تصاغ بشكل محرّف و بعيد عن الواقع، فالمبدعون هؤلاء كانوا قد ساهموا في جزء من أجزاء عملية التحول والنهضة الحضارية ليس إلا. من غيّر واقع أوروبا هي شعوبها، قد يقال إن هذه الشعوب لم تكن لتتغير لولا أنها وجدت من ينبهها و يوقظها و يزرع فيها روح جديدة اخترقت وحطمت كنائس الجهل والتخلف والانغلاق. هذا صحيح نظريا ومقبول إلى حد ما وليس مطلقا، فالعامل الأهم والحاسم هو وعي وإرادة الشعوب، ولولا ذلك لبقي المفكرون والمثقفون والكتاب يسطرون و يكتبون و ينشرون ما شاءوا إلى أبد الآبدين. إذاً تلك الشعوب كانت قد تحرت امتلاك قرارها و استيقظت من سباتها و انقلبت بإرادة راغبة في الحياة الكريمة ولولا هذا لما حدث شيء مما حدث. ومع ذلك فالتغيير كان ثمرة جهود مشتركة لرجال دين متنورين خاصة في ايطاليا بعد سقوط القسطنطينية و مناضلين مخلصين و وجهاء من أصحاب المال والنفوذ و علماء في الفيزياء والطب والفلك و بحارة مستكشفين قلبوا جميعهم ما كان حقائق مؤسسة قامت عليها منظومة دينية أغرقت أوروبا بخرافات لا تنتهي، البذرة وضعتها النخب التي تحلت بالشجاعة والصدق والحرص، وعلى الصعيد الثقافي لم تشهد أوروبا في بدايات نهضتها تقسيما للثقافة إلى عامة وخاصة ولا إلى نخبوية و شعبية ولا إلى علمية وأدبية، وكلها عملت على بناء الإنسان وإعلاء قيمته الإنسانية ليهب ويغير الواقع. فتشكل وعي عام بضرورة الخلاص والتحول والتغيير و ترك منطقة مظلمة عفنة إلى ساحة النور و الحرية والانعتاق. لكن ما وقعت فيه شعوب أوروبا فيما بعد لا يعدو كونه قدرا لهذا التغيير الرهيب، فالخلاص من سلطة الكنيسة و رجال العفن الديني أدّى إلى الثأر من كبت الحريات ومصادرتها و عبرت هذه الحالة عن نفسها بالذهاب بعيدا عن كل ما كان محرما ليصبح التحرر ليس من سلطة الكنيسة بل من كل ما يمت لتعاليمها بصلة ساعد على ذلك أن للإنسان الأوربي ومجتمعه طبيعة خاصة تختلف عن غيره.
قبل عام تقريبا قرأت مقالا لكاتب عراقي مغترب، المقالة جزء من سلسلة مقالات يقص علينا الكاتب فيها يوميات زيارته إلى العراق بعد سنوات طويلة في المنفى. ومن خلالها يعبر الكاتب عن حقيقة يتحفنا باكتشافها تتمثل في أن الخمر هي المظهر الحضاري لأية ديمقراطية في العالم، فأينما وجدت الخمر ثبت لك بالدليل القاطع أن هناك ديمقراطية، لهذا عاد كاتبنا وهو على قناعة تامة بألا ديمقراطية تحققت في العراق بعد 2003 ما دام أنه لم يجد من يبيعه زجاجة خمر في المطار! وربما نسي الكاتب أن قبيلة متوحشة في أعماق أفريقيا سيجد لديها كل أصناف الخمور التي لا تخطر على باله.
لو كنت صاحب قرار لعمدت في الوقت الراهن إلى تحريم الخمر بكل أنواعها والتجريم على استيرادها و حيازتها و حتى تعاطيها. ليس من دافع تديّني ، لان القضية بالنسبة لي من أساسها غير متعلقة بالدين بل بواقع يبدو أن "مبدعينا الأفذاذ" و " كتّابنا العظام" يجهلونه – خاصة من هم خارج العراق- أو يتجاهلونه – في الداخل - برغم معرفتهم به. فالمجتمع العراقي يعاني من تدهور فاضح في منظومته الأخلاقية وتهاوي الكثير من تلك الأركان التي توفر لنا الأمن والسكينة في بيوتنا بعد خوفنا من الشوارع الملغومة بالمفخخات والعبوات. إن هذا المجتمع يمر بحالة غير مألوفة على الإطلاق، فهو من الخارج يبدو محكوما بأحزاب دينية و لها مؤيدون كثر في الشارع، و يبدو أيضا أنه متفاعل مع الدين من خلال الطقوس التي تعبر عن انجذاب قوي نحو الدين و الرغبة العارمة في التعبير عن الانتماء للهويات الطائفية تصر حشود تعد بالملايين على إبرازها بقوة. في حين يبدو هذا المجتمع من الداخل مجتمعا مفتوحا على رغبات شهوية حارقة، و في طريقه للسقوط التام في منزلق أخلاقي خطير للغاية يطيح بكل القيم والأخلاق المتعارف عليها لمجتمع يوصف بالمحافظ أو حتى شبه محافظ بالإضافة إلى تعطيل كل طاقاته وهدرها دون معنى وهو في مرحلة بأمس الحاجة إليها. إن الظواهر غير المألوفة على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي بدأت خلال السنوات القليلة الماضية، ورغم التردد في إشهار وإعلان الفضيحة إلا أنها تمارس على نطاق واسع في حالة استغلال فوضوية للحريات المتاحة.
هناك ادعاء ساذج بأن حظر الخمور يؤدي إلى تنامي تعاطي المخدرات، أي أن ثمة علاقة عكسية بين تداول الخمر وتداول المخدرات، نريد مصداقا واحدا يعزز هذه الفرضية الغبية، إذ أن ما يعرفه الجميع أن الخمر والمخدرات صنوان لا يفترقان وإباحة الخمر في الدول الغربية لم يمنع مطلقا من شيوع تعاطي المخدرات، بل أن عصابات التهريب، كالتي في العراق اليوم، تزاول عمليات التهريب للخمر جنبا إلى جنب مع تهريب الحشيشة. يبدو أن المعادلة السابقة وضعت طبقا لحسابات تجارية، فمنع الخمر يعوّض بكمية إضافية من الحشيشة! يا لها من معضلة حقيقية!
يتجمهر في كل حي مجموعة من المراهقين لتعاطي الخمر والمخدرات وتبادل الأقراص ذات المحتوى الإباحي بعلم وأحيانا أمام مرأى السلطات، مع أن حيازة كهذه تعاقب عليها بعض القوانين الأوربية والغربية ما دامت في يد الأحداث بل الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الثانية عشر.ثم تتحفنا بعض الجهات الرسمية بإحصائيات حول تسرب الطلبة من مقاعد الدراسة دون بيان الأسباب! أين يذهب أطفالنا يا ترى؟ أما على مستوى الشباب فالحديث عن العلاقات غير الشرعية و الممارسات غير الأخلاقية و الأفعال المشينة حديث يوقع صاحبه في الحرج الشديد لتفشيه بشكل مرعب في كل مدينة وقضاء و حتى قرية في عراق اليوم.
من الطبيعي أن يحكم البعض على تحذيرات كهذه بالمبالغة، لأن الصورة بحد ذاتها مشوهة و مختلطة و متناقضة، فضلا عن البعض يريد الصورة التي يتخيلها في ذهنه رافضا الصورة الملموسة على أرض الواقع. الأخلاقيات الاجتماعية والدينية غطاء خارجي محض كغطاء السياسيين، (هل هي موجة تقليد للساسة؟) أما في الظل .. تحت عتمة الليل .. في الزوايا الظليلة .. حال آخر مختلف تماما .. كل الأشياء تتبدد .. إنها حالة نفاق قاتلة و منفّرة. المشكلة ليست في الخمر ولا غيرها، بل في مجتمع لا يعرف شبابه الحدود الوسطى و لا المعقولة. فالتطرف سمة سائدة. يبدو أن جزءا من تعليل ظاهرة التطرف في سلوكيات وأفعال كشرب الخمر مثالا، والغالبة على كل شيء يمارس اليوم هو أن الدافع ليس ترفيا ولا لمجرد إضاعة الوقت بلذة ارتشاف ما يهدئ أو يسكّن أو يُشعِر بالطمأنينة المنتشية كما هو الحال لدى مثقفينا السكارى، بل هو ثأر غاضب من الحياة. الشاب العراقي في محنة حقيقية وليس كالكاتب الذي يتقلب على كرسي في اتحاد الأدباء. أو يجلس وراء شاشة الكمبيوتر غارقا في عالمه الخاص. إنه، أي الشاب أو المراهق، يشرب ليعكّر مزاجه أكثر في نهاية المطاف، في محاولة انتقام عابثة من كل ما حوله أو ربما من نفسه أولا. لهذا تفاقمت المشاكل الأسرية بشكل حاد وتهاوت تلك العادات الجميلة والعفوية التي توّثق كينونة الأسرة وتشد أواصرها، و تزايدت معدلات الجريمة والاعتداء على الأعراض وعمليات الانتحار و تصفية النساء بداعي غسل العار. وهي ظواهر يتم التكتم عليها لأسباب معروفة. إذ ليس من المعقول أن تعترف السلطات وهي بيد الأحزاب الإسلامية بما يفجر كما هائلا من التساؤلات، و يطيح بمقولات وشعارات تبدو فارغة حقا حين يتم الحديث عن مقدار الولاء الإيماني الذي يجلل رؤوس ملايين الشعب العراقي! ودعنا من ادعاءات بعض السكارى الذين يبدو أنهم سكارى على الدوام من كون السكّير العراقي له خصال محمودة ومختلفة عن سكارى الأرض، فيكون صاحب غيرة و حمية و لا ينتهك عرضا ولا يعتدي على حرمة، في الوقت الذي تسجل أمامنا يوميا عشرات الحالات من المشاجرات والاعتداءات وعمليات الاغتصاب من قبل شباب طائش يرتشف الخمر ليكمل لذته باعتداء هنا أو عملية سطو هناك أو يقف عند مداخل ومخارج الأزقة والمدارس لمعاكسة الفتيات، من أين نأتي بوعي حضاري ليكتفي الشاب بمعاقرة الخمر كالأديب المؤدب أعلى الله شأنه! وهو يسمي الخمر " حليب السباع" لغة تتماهى في مقصود اللذة المتوحشة، وصف عراقي يعكس جبن الصحوة و يتوهم شجاعة الثمل.
إن عادة شرب الخمر كغيرها تبدو خاضعة في ممارستها لوعي الفرد، يحق لمثقفي الخمرة أن يعترضوا لأنهم عقدوا مع شياطين الوحي على أن تكون طقوسهم مشبعة برائحة الويسكي و يسلطن على إيقاعه لإنتاج التفاهات غير المجدية، لكن رحمةً بمجتمع تبلغ نسبة البطالة بين شبابه نسبة فلكية لا مثيل لها. وغالبيتهم جهلة غير قادرين على شكم غرائزهم، ولا أعتقد أن الجاهل ستعقله الخمر وتحوله إلى شخص متزن فيما هو مختل أصلا وهو صاحٍ. لقد ساءني أن تقدم مؤسسة المدى على حشد كل طاقاتها لأجل الاعتراض على قرار مجلس محافظة بغداد بغلق نادي لاتحاد الأدباء، وتجعل ذلك كما تقول (باكورة ) للفعاليات أخرى ( أين كان الجماعة؟ نائمين عن كل المهازل التي حصلت ليستفيقوا الآن؟) والجميع يعلم أن هذا النادي وغيره مما تم غلقه في الآونة الأخيرة سيتم فتحه مرة أخرى عاجلا أو آجلا، والقضية لا تعدو كونها محاولة استرضاء للشارع وهو استرضاء قد يكون منذرا بتنازلات أو صفقات سياسية معينة تدور خلق الكواليس مترافقة مع حيثيات تشكيل الوزارة الجديدة، وهو أمر ترافق مع تكليف السيد المالكي بتشكيل الوزارة في يوم الغدير الذي قرأه الكثيرون على انه محاولة من نوع ما لمداعبة الشارع الشيعي، وعموما فليس صدفة أن يجتمع الأمران. إنها لعبة مملة بقدر ما هي مكشوفة. نعم ربما كان أمرا قانونيا بحتا كما جاء في رد مجلس بغداد المنشور يوم أمس في كتابات. وفي الحالين ستعود الخمرة إلى مجاريها في اتحاد الأدباء الأفاضل، ولا يحتاج الأمر إلا لقليل من الوقت والصبر.
شعرت بالسوء لما قامت به المدى، الصرح الثقافي الذي نعتز به جميعا، و التي حبذا لو كانت قد أقدمت على إقامة فعالية مماثلة لأجل النظر أو المطالبة على الأقل بحل مشاكل الشباب العراقي الغارق في انتكاسات حياته القاتلة. أو المطالبة بحقوق للأرامل واليتامى أو المعاقين، أو تعويض ضحايا النظام السابق الذين تم تصنيفهم إلى فئات خلافا للقانون الصادر عن البرلمان السابق وبقي حبرا على ورق حتى اللحظة في أغلب المحافظات .. أو حتى للضغط – من منطق الشرف الإعلامي لو صح لنا الوصف - على الحكومة لمراجعة مهزلة المنح التشجيعية للكتاب والصحفيين التي شملت الأغلب ممن لا علاقة لهم بالكتابة والصحافة وهم يعملون موظفين في دوائر الدولة ومؤسساتها المترهلة تحت يافطة إعلامي، أو على الأقل أن تقوم بعمل إنساني من قبيل إحصاء عدد الفتيات المغتصبات أو المغرر بهن أو المختطفات العذارى على يد السكارى واللواتي تنتعش التجارة بهن إلى دول الخليج وسوريا و دعم قضيتهن معنويا وإعلاميا على الأقل إزاء صمت رسمي مطبق . أو غير ذلك مما يستحق أن نشيد به لمؤسسة عريقة كالمدى، بدلا من هذه المهزلة .. التظاهر لتقديس الخمرة تحت شعار الدفاع عن الحريات والدستور! ما الذي سيعكسه هذا التصرف الأرعن للشارع العراقي البسيط؟ وما هي الصورة التي سيتم رسمها للمثقف والكاتب والأديب في ذهن البسطاء؟ ثم يحدثونك بعد ذلك عن الهوة الكبيرة بين المثقف ومجتمعه محمّلين جلالتهم المجتمع المسؤولية عن تلك النفرة من الثقافة و أصحابها.
هل هو قدرنا إذن أن يقع مجتمعنا ضحية السياسة بطريقة عاهرة فاضحة وغير أخلاقية؟ ذلك أن الزوابع الرعدية في بعض وسائل إعلامنا ومن قِبَل مثقفينا تجاه قرارات بعض المؤسسات الحكومية تأتي منفعلة سياسيا لا غير. إنها مجرد معركة في عالم السياسة المتعفن بكل ما هو رخيص وبذيء ولا أخلاقي، لتكون الضحية مصير مجتمع بكامله نعرف أن له خصوصياته الاجتماعية والقيمية والأخلاقية وليس من السهل التغاضي عن انهيارها ولمّا نبدأ بعملية بناء بديل مناسب لها.
استطراد\ ظهرت في قضاء سوق الشيوخ وهو أحد أقضية محافظة ذي قار جماعة تطلق على نفسها سرايا صرخة الحق، المنشور الذي وزع في مناطق القضاء هدد تجار الخمر والمخدرات وممتهني الدعارة بفضحهم عبر نشر أسمائهم و تسجيلات فيديو عنهم وفي حال لم يرتدعوا سيتم قتلهم، اللغة التي كتب بها المنشور ملفتة حقا ومثيرة للتساؤل إذ جاء في عنوان التهديد ما يلي ( إلى\ اللوطية" القرامة – الفروخ – الحلوين – العاهرات – الزانيات " الكحاب والكوادات والذين يتاجرون بنقل الحلوين من سوق الشيوخ إلى الناصرية وخصوصا الشطرة وأصحاب المقاهي الذين يضعون الحشيشة في النركيلة وتجار حبوب الكبسلة وبائعي الخمر)
هذه الصياغة لا يمكن أن تصدر إلا من جاهل، فليس من الأخلاقي في حال كان صاحبها ورعا ومتدينا حقا أن يصوغها بهذا الشكل، ما يترك علامات استفهام كبرى حول الموضوع، ويذكّر بالجدل حول الجهات التي تقف وراء ظهور جماعات كهذه، وأهدافها الحقيقية. فالقضية لن تثمر عن شيء أكثر من استنفار أمني و قلقلة قد تستغل من قبل بعض الجهات لتنفيذ أغراض معينة. ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى ما ذكرناه في المقال أعلاه من تفشي هذه الظواهر بشكل مخيف يهدد منظومة أخلاقية واجتماعية لها خصوصياتها المعروفة، و تصاعد سلبيات لا يمكن أن يقبل بها صاحب مبدأ أخلاقي فاضل ومروءة ، نذكر فقط بواحدة من عشرات الأحداث الرهيبة ومن سوق الشيوخ نفسها، حيث أقدمت قبل أسابيع إحدى النساء على استدراج كهل إلى دارها و بعد أن انتهت من ممارسة الجنس معه قامت بقتله وإحراق جثته و إلقائها في مبزل للمياه، واحدة من مئات أو آلاف الحوادث المتتالية التي تؤشر إلى أن حرية منفلتة .. حرية يريد البعض استنساخها نصا لمجتمعات أخرى .. حرية لا تناسبنا أبدا لأننا كهذا، أناس غير مناسبين لحرية بحجم الفوضى السياسية والاجتماعية.
المنشور أعلاه يحرك شيئا من الشك في نفوسنا لكونه جاء متزامنا مع قضية حظر النوادي والبارات في بغداد والضجة من حوله، هل يمكن افتراض انه منشور مزيف من جهة ما لا سيما وأن الأمر يأتي بعد أيام قلائل من نشر صور صدام في نفس القضاء. ترى من هي تلك الجهة؟ .. لا نريد التكهن لكي لا نقع في ظنون ستجر علينا ظنونا مناوئة لتحشرنا في خانة لسنا من بضائعها.
في المنشور نفسه نجد أن كاتبه يدعي أخذ الأذن من المراجع الدينية والحوزة العلمية، و حسب الاتصالات التي أجريناها نفت اغلب المرجعيات المعروفة علمها بمسألة كهذه و لم تعطِ إذنا بفعل ما هدد المنشور به، مع معرفتنا المسبقة بمواقف تلك المراجع التي لا تبيح عمليات القتل تحت أي سبب من الأسباب. وعلى فرض نزاهة قصد أصحاب المنشور لتخويف أصحاب تلك الممارسات التي تعطل طاقات شباب هي معطلة أصلا فإن لهؤلاء الذين نشروه العذر وكل العذر بعد أن آلمهم واقع التردي الذي ينخر الجسد الاجتماعي بطريقة مميتة وقاتلة. تظاهرة شارع المتنبي دعم لمثل هذه الحركات و تبرير مجاني لظهورها.
قبل عام تقريبا قرأت مقالا لكاتب عراقي مغترب، المقالة جزء من سلسلة مقالات يقص علينا الكاتب فيها يوميات زيارته إلى العراق بعد سنوات طويلة في المنفى. ومن خلالها يعبر الكاتب عن حقيقة يتحفنا باكتشافها تتمثل في أن الخمر هي المظهر الحضاري لأية ديمقراطية في العالم، فأينما وجدت الخمر ثبت لك بالدليل القاطع أن هناك ديمقراطية، لهذا عاد كاتبنا وهو على قناعة تامة بألا ديمقراطية تحققت في العراق بعد 2003 ما دام أنه لم يجد من يبيعه زجاجة خمر في المطار! وربما نسي الكاتب أن قبيلة متوحشة في أعماق أفريقيا سيجد لديها كل أصناف الخمور التي لا تخطر على باله.
لو كنت صاحب قرار لعمدت في الوقت الراهن إلى تحريم الخمر بكل أنواعها والتجريم على استيرادها و حيازتها و حتى تعاطيها. ليس من دافع تديّني ، لان القضية بالنسبة لي من أساسها غير متعلقة بالدين بل بواقع يبدو أن "مبدعينا الأفذاذ" و " كتّابنا العظام" يجهلونه – خاصة من هم خارج العراق- أو يتجاهلونه – في الداخل - برغم معرفتهم به. فالمجتمع العراقي يعاني من تدهور فاضح في منظومته الأخلاقية وتهاوي الكثير من تلك الأركان التي توفر لنا الأمن والسكينة في بيوتنا بعد خوفنا من الشوارع الملغومة بالمفخخات والعبوات. إن هذا المجتمع يمر بحالة غير مألوفة على الإطلاق، فهو من الخارج يبدو محكوما بأحزاب دينية و لها مؤيدون كثر في الشارع، و يبدو أيضا أنه متفاعل مع الدين من خلال الطقوس التي تعبر عن انجذاب قوي نحو الدين و الرغبة العارمة في التعبير عن الانتماء للهويات الطائفية تصر حشود تعد بالملايين على إبرازها بقوة. في حين يبدو هذا المجتمع من الداخل مجتمعا مفتوحا على رغبات شهوية حارقة، و في طريقه للسقوط التام في منزلق أخلاقي خطير للغاية يطيح بكل القيم والأخلاق المتعارف عليها لمجتمع يوصف بالمحافظ أو حتى شبه محافظ بالإضافة إلى تعطيل كل طاقاته وهدرها دون معنى وهو في مرحلة بأمس الحاجة إليها. إن الظواهر غير المألوفة على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي بدأت خلال السنوات القليلة الماضية، ورغم التردد في إشهار وإعلان الفضيحة إلا أنها تمارس على نطاق واسع في حالة استغلال فوضوية للحريات المتاحة.
هناك ادعاء ساذج بأن حظر الخمور يؤدي إلى تنامي تعاطي المخدرات، أي أن ثمة علاقة عكسية بين تداول الخمر وتداول المخدرات، نريد مصداقا واحدا يعزز هذه الفرضية الغبية، إذ أن ما يعرفه الجميع أن الخمر والمخدرات صنوان لا يفترقان وإباحة الخمر في الدول الغربية لم يمنع مطلقا من شيوع تعاطي المخدرات، بل أن عصابات التهريب، كالتي في العراق اليوم، تزاول عمليات التهريب للخمر جنبا إلى جنب مع تهريب الحشيشة. يبدو أن المعادلة السابقة وضعت طبقا لحسابات تجارية، فمنع الخمر يعوّض بكمية إضافية من الحشيشة! يا لها من معضلة حقيقية!
يتجمهر في كل حي مجموعة من المراهقين لتعاطي الخمر والمخدرات وتبادل الأقراص ذات المحتوى الإباحي بعلم وأحيانا أمام مرأى السلطات، مع أن حيازة كهذه تعاقب عليها بعض القوانين الأوربية والغربية ما دامت في يد الأحداث بل الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الثانية عشر.ثم تتحفنا بعض الجهات الرسمية بإحصائيات حول تسرب الطلبة من مقاعد الدراسة دون بيان الأسباب! أين يذهب أطفالنا يا ترى؟ أما على مستوى الشباب فالحديث عن العلاقات غير الشرعية و الممارسات غير الأخلاقية و الأفعال المشينة حديث يوقع صاحبه في الحرج الشديد لتفشيه بشكل مرعب في كل مدينة وقضاء و حتى قرية في عراق اليوم.
من الطبيعي أن يحكم البعض على تحذيرات كهذه بالمبالغة، لأن الصورة بحد ذاتها مشوهة و مختلطة و متناقضة، فضلا عن البعض يريد الصورة التي يتخيلها في ذهنه رافضا الصورة الملموسة على أرض الواقع. الأخلاقيات الاجتماعية والدينية غطاء خارجي محض كغطاء السياسيين، (هل هي موجة تقليد للساسة؟) أما في الظل .. تحت عتمة الليل .. في الزوايا الظليلة .. حال آخر مختلف تماما .. كل الأشياء تتبدد .. إنها حالة نفاق قاتلة و منفّرة. المشكلة ليست في الخمر ولا غيرها، بل في مجتمع لا يعرف شبابه الحدود الوسطى و لا المعقولة. فالتطرف سمة سائدة. يبدو أن جزءا من تعليل ظاهرة التطرف في سلوكيات وأفعال كشرب الخمر مثالا، والغالبة على كل شيء يمارس اليوم هو أن الدافع ليس ترفيا ولا لمجرد إضاعة الوقت بلذة ارتشاف ما يهدئ أو يسكّن أو يُشعِر بالطمأنينة المنتشية كما هو الحال لدى مثقفينا السكارى، بل هو ثأر غاضب من الحياة. الشاب العراقي في محنة حقيقية وليس كالكاتب الذي يتقلب على كرسي في اتحاد الأدباء. أو يجلس وراء شاشة الكمبيوتر غارقا في عالمه الخاص. إنه، أي الشاب أو المراهق، يشرب ليعكّر مزاجه أكثر في نهاية المطاف، في محاولة انتقام عابثة من كل ما حوله أو ربما من نفسه أولا. لهذا تفاقمت المشاكل الأسرية بشكل حاد وتهاوت تلك العادات الجميلة والعفوية التي توّثق كينونة الأسرة وتشد أواصرها، و تزايدت معدلات الجريمة والاعتداء على الأعراض وعمليات الانتحار و تصفية النساء بداعي غسل العار. وهي ظواهر يتم التكتم عليها لأسباب معروفة. إذ ليس من المعقول أن تعترف السلطات وهي بيد الأحزاب الإسلامية بما يفجر كما هائلا من التساؤلات، و يطيح بمقولات وشعارات تبدو فارغة حقا حين يتم الحديث عن مقدار الولاء الإيماني الذي يجلل رؤوس ملايين الشعب العراقي! ودعنا من ادعاءات بعض السكارى الذين يبدو أنهم سكارى على الدوام من كون السكّير العراقي له خصال محمودة ومختلفة عن سكارى الأرض، فيكون صاحب غيرة و حمية و لا ينتهك عرضا ولا يعتدي على حرمة، في الوقت الذي تسجل أمامنا يوميا عشرات الحالات من المشاجرات والاعتداءات وعمليات الاغتصاب من قبل شباب طائش يرتشف الخمر ليكمل لذته باعتداء هنا أو عملية سطو هناك أو يقف عند مداخل ومخارج الأزقة والمدارس لمعاكسة الفتيات، من أين نأتي بوعي حضاري ليكتفي الشاب بمعاقرة الخمر كالأديب المؤدب أعلى الله شأنه! وهو يسمي الخمر " حليب السباع" لغة تتماهى في مقصود اللذة المتوحشة، وصف عراقي يعكس جبن الصحوة و يتوهم شجاعة الثمل.
إن عادة شرب الخمر كغيرها تبدو خاضعة في ممارستها لوعي الفرد، يحق لمثقفي الخمرة أن يعترضوا لأنهم عقدوا مع شياطين الوحي على أن تكون طقوسهم مشبعة برائحة الويسكي و يسلطن على إيقاعه لإنتاج التفاهات غير المجدية، لكن رحمةً بمجتمع تبلغ نسبة البطالة بين شبابه نسبة فلكية لا مثيل لها. وغالبيتهم جهلة غير قادرين على شكم غرائزهم، ولا أعتقد أن الجاهل ستعقله الخمر وتحوله إلى شخص متزن فيما هو مختل أصلا وهو صاحٍ. لقد ساءني أن تقدم مؤسسة المدى على حشد كل طاقاتها لأجل الاعتراض على قرار مجلس محافظة بغداد بغلق نادي لاتحاد الأدباء، وتجعل ذلك كما تقول (باكورة ) للفعاليات أخرى ( أين كان الجماعة؟ نائمين عن كل المهازل التي حصلت ليستفيقوا الآن؟) والجميع يعلم أن هذا النادي وغيره مما تم غلقه في الآونة الأخيرة سيتم فتحه مرة أخرى عاجلا أو آجلا، والقضية لا تعدو كونها محاولة استرضاء للشارع وهو استرضاء قد يكون منذرا بتنازلات أو صفقات سياسية معينة تدور خلق الكواليس مترافقة مع حيثيات تشكيل الوزارة الجديدة، وهو أمر ترافق مع تكليف السيد المالكي بتشكيل الوزارة في يوم الغدير الذي قرأه الكثيرون على انه محاولة من نوع ما لمداعبة الشارع الشيعي، وعموما فليس صدفة أن يجتمع الأمران. إنها لعبة مملة بقدر ما هي مكشوفة. نعم ربما كان أمرا قانونيا بحتا كما جاء في رد مجلس بغداد المنشور يوم أمس في كتابات. وفي الحالين ستعود الخمرة إلى مجاريها في اتحاد الأدباء الأفاضل، ولا يحتاج الأمر إلا لقليل من الوقت والصبر.
شعرت بالسوء لما قامت به المدى، الصرح الثقافي الذي نعتز به جميعا، و التي حبذا لو كانت قد أقدمت على إقامة فعالية مماثلة لأجل النظر أو المطالبة على الأقل بحل مشاكل الشباب العراقي الغارق في انتكاسات حياته القاتلة. أو المطالبة بحقوق للأرامل واليتامى أو المعاقين، أو تعويض ضحايا النظام السابق الذين تم تصنيفهم إلى فئات خلافا للقانون الصادر عن البرلمان السابق وبقي حبرا على ورق حتى اللحظة في أغلب المحافظات .. أو حتى للضغط – من منطق الشرف الإعلامي لو صح لنا الوصف - على الحكومة لمراجعة مهزلة المنح التشجيعية للكتاب والصحفيين التي شملت الأغلب ممن لا علاقة لهم بالكتابة والصحافة وهم يعملون موظفين في دوائر الدولة ومؤسساتها المترهلة تحت يافطة إعلامي، أو على الأقل أن تقوم بعمل إنساني من قبيل إحصاء عدد الفتيات المغتصبات أو المغرر بهن أو المختطفات العذارى على يد السكارى واللواتي تنتعش التجارة بهن إلى دول الخليج وسوريا و دعم قضيتهن معنويا وإعلاميا على الأقل إزاء صمت رسمي مطبق . أو غير ذلك مما يستحق أن نشيد به لمؤسسة عريقة كالمدى، بدلا من هذه المهزلة .. التظاهر لتقديس الخمرة تحت شعار الدفاع عن الحريات والدستور! ما الذي سيعكسه هذا التصرف الأرعن للشارع العراقي البسيط؟ وما هي الصورة التي سيتم رسمها للمثقف والكاتب والأديب في ذهن البسطاء؟ ثم يحدثونك بعد ذلك عن الهوة الكبيرة بين المثقف ومجتمعه محمّلين جلالتهم المجتمع المسؤولية عن تلك النفرة من الثقافة و أصحابها.
هل هو قدرنا إذن أن يقع مجتمعنا ضحية السياسة بطريقة عاهرة فاضحة وغير أخلاقية؟ ذلك أن الزوابع الرعدية في بعض وسائل إعلامنا ومن قِبَل مثقفينا تجاه قرارات بعض المؤسسات الحكومية تأتي منفعلة سياسيا لا غير. إنها مجرد معركة في عالم السياسة المتعفن بكل ما هو رخيص وبذيء ولا أخلاقي، لتكون الضحية مصير مجتمع بكامله نعرف أن له خصوصياته الاجتماعية والقيمية والأخلاقية وليس من السهل التغاضي عن انهيارها ولمّا نبدأ بعملية بناء بديل مناسب لها.
استطراد\ ظهرت في قضاء سوق الشيوخ وهو أحد أقضية محافظة ذي قار جماعة تطلق على نفسها سرايا صرخة الحق، المنشور الذي وزع في مناطق القضاء هدد تجار الخمر والمخدرات وممتهني الدعارة بفضحهم عبر نشر أسمائهم و تسجيلات فيديو عنهم وفي حال لم يرتدعوا سيتم قتلهم، اللغة التي كتب بها المنشور ملفتة حقا ومثيرة للتساؤل إذ جاء في عنوان التهديد ما يلي ( إلى\ اللوطية" القرامة – الفروخ – الحلوين – العاهرات – الزانيات " الكحاب والكوادات والذين يتاجرون بنقل الحلوين من سوق الشيوخ إلى الناصرية وخصوصا الشطرة وأصحاب المقاهي الذين يضعون الحشيشة في النركيلة وتجار حبوب الكبسلة وبائعي الخمر)
هذه الصياغة لا يمكن أن تصدر إلا من جاهل، فليس من الأخلاقي في حال كان صاحبها ورعا ومتدينا حقا أن يصوغها بهذا الشكل، ما يترك علامات استفهام كبرى حول الموضوع، ويذكّر بالجدل حول الجهات التي تقف وراء ظهور جماعات كهذه، وأهدافها الحقيقية. فالقضية لن تثمر عن شيء أكثر من استنفار أمني و قلقلة قد تستغل من قبل بعض الجهات لتنفيذ أغراض معينة. ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى ما ذكرناه في المقال أعلاه من تفشي هذه الظواهر بشكل مخيف يهدد منظومة أخلاقية واجتماعية لها خصوصياتها المعروفة، و تصاعد سلبيات لا يمكن أن يقبل بها صاحب مبدأ أخلاقي فاضل ومروءة ، نذكر فقط بواحدة من عشرات الأحداث الرهيبة ومن سوق الشيوخ نفسها، حيث أقدمت قبل أسابيع إحدى النساء على استدراج كهل إلى دارها و بعد أن انتهت من ممارسة الجنس معه قامت بقتله وإحراق جثته و إلقائها في مبزل للمياه، واحدة من مئات أو آلاف الحوادث المتتالية التي تؤشر إلى أن حرية منفلتة .. حرية يريد البعض استنساخها نصا لمجتمعات أخرى .. حرية لا تناسبنا أبدا لأننا كهذا، أناس غير مناسبين لحرية بحجم الفوضى السياسية والاجتماعية.
المنشور أعلاه يحرك شيئا من الشك في نفوسنا لكونه جاء متزامنا مع قضية حظر النوادي والبارات في بغداد والضجة من حوله، هل يمكن افتراض انه منشور مزيف من جهة ما لا سيما وأن الأمر يأتي بعد أيام قلائل من نشر صور صدام في نفس القضاء. ترى من هي تلك الجهة؟ .. لا نريد التكهن لكي لا نقع في ظنون ستجر علينا ظنونا مناوئة لتحشرنا في خانة لسنا من بضائعها.
في المنشور نفسه نجد أن كاتبه يدعي أخذ الأذن من المراجع الدينية والحوزة العلمية، و حسب الاتصالات التي أجريناها نفت اغلب المرجعيات المعروفة علمها بمسألة كهذه و لم تعطِ إذنا بفعل ما هدد المنشور به، مع معرفتنا المسبقة بمواقف تلك المراجع التي لا تبيح عمليات القتل تحت أي سبب من الأسباب. وعلى فرض نزاهة قصد أصحاب المنشور لتخويف أصحاب تلك الممارسات التي تعطل طاقات شباب هي معطلة أصلا فإن لهؤلاء الذين نشروه العذر وكل العذر بعد أن آلمهم واقع التردي الذي ينخر الجسد الاجتماعي بطريقة مميتة وقاتلة. تظاهرة شارع المتنبي دعم لمثل هذه الحركات و تبرير مجاني لظهورها.